* لم تكن كرة القدم عند محمد الياس محجوب مجرد لعبة، ولم يكن المريخ عنده مجرد نادٍ، بل كان كياناً يسكنه كما يسكن المرء روحه، عاش له بكل ما يملك، حتى صار اسمه مرادفاً للوفاء، ورمزاً محفوظاً في وجدان كل مريخابي، ومحل إحترام في عيون كل الرياضيين
* لم يكن الرجل إدارياً كبقية الإداريين، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، درسها الأول العطاء بتجرّد، ووصيتها الأخيرة الإخلاص في حب الكيان
* عاش ود الياس عمره في خدمة المريخ، لم يبدل ولم يساوم، من أولى خطواته في الدار الحمراء وحتى لحظة جلوسه على قمة الرئاسة، ظل هو ذات الرجل، صافي النية، عميق الانتماء، لا تغريه الكراسي، ولا تفتنه الأضواء
* وحين تقلد المنصب، لم يتعامل معه كواجهة اجتماعية، بل كعبء مقدس لا ينهض به إلا من نذر نفسه للتاريخ
* في سنوات قيادته، تسيد المريخ الساحة، وأحرز بطولة الدوري الممتاز ثلاث مرات متتالية، إنجاز لم يُكرَّر حتى اليوم، لم يكن ذلك محض صدفة، ولا وليد ظروف، بل ثمرة إخلاص نادر، وعمل بصمت بعيداً عن الضجيج
* كان ود الياس يؤمن أن الأفعال أبلغ من الأقوال، وأن العطاء للمعشوق هو أسمى مراتب الوفاء
* ولأنني أعلم أن التوثيق لمسيرته العطرة واجب، اتصلت به ذات مرة لأجل ذلك، فقابلني بكل لطف، وفاجأني بمتابعته الدقيقة لبرامج إذاعة المساء (101)، وأعلن موافقته بلا تردد، في تلك اللحظة شعرت أنني أمام رجل يقدّر التفاصيل الصغيرة كما يقدّر المعاني الكبيرة
* غير أن ظروف مرضه حالت دون لقائي به، فحرمتني من شرف التوثيق لأعظم رمز من رموز الرياضة، بقيت في نفسي حسرة، لكنها في ذات الوقت صارت وسامًا، لأنني لمست عن قرب صفاء معدن رجل إستثنائي
* ومواقفه المشرفة كثيرة، لكن يبقى أبرزها وأكثرها دلالة على صلابته ونقاء سريرته، رفضه لوزارة الشباب والرياضة في عهد الإنقاذ، بعد أن صار حزبه الاتحادي جزءًا من منظومة الحكم، اعتذر بلطف، وقال كلمته الخالدة (لا أقبل بالمنصب إلا في ظل نظام ديمقراطي)
* لم تكن تلك مجرد عبارة، بل موقف رجل عاش شريفاً ، ورحل وفياً، ولم يتنازل عن قناعاته مهما عظمت الإغراءات، مقدما الدرس البليغ للساسة
* عرف الناس ود الياس بدماثة الخلق، وسعة الصدر، ورجاحة العقل، لم يكن طرفاً في خصومة حتى من اختلفوا معه لم يملكوا إلا أن يجلّوه ويحترموه، لأنه كان يعلو بسلوكه فوق الخلافات، ويظلّل الجميع بمظلة محبته
* كان إنسانًا قبل أن يكون إداريًا، وزعيمًا بقيمه قبل أن يكون رئيسًا بمنصبه
* رحل محمد الياس محجوب كما يرحل الكبار… في هدوء يليق بوقاره، وترك خلفه سيرةً هي أبلغ من كل كلام، لم يكن فقده للمريخ وحده، ولا لحزب بعينه، بل خسارة للوطن كله، لأن الرجال الذين يشبهونه لا يُعوضون، غاب جسداً، لكنه باقٍ أثرًا طيبًا، وسيرة عطرة، واسمًا يتردد كلما ذُكر الإخلاص في زمن قلّت فيه النماذج وشحّت فيه المواقفنم هادئًا أيها الزعيم النبيل… فقد حملت الأمانة كما ينبغي، وأبقيت سيرتك نقية كالبياض، رحلت وتركت درسًا خالدًا أن المحبة الصادقة لا تُشترى، وأن المبادئ الحقيقية لا تُباعرحمك الله بقدر ما أحببت المريخ وأحبك، وبقدر ما أعطيت للرياضة من جهدك، وللسودان من وفائك، جعل الله قبرك روضةً من رياض الجنة، وسيرتك الطيبة صدقة جارية لا ينقطع أجرهاوداعًا يا ود الياس… وداعًا أيها الزعيم، أيها النبيل، أيها الصادق الذي ظل وفيًا حتى آخر يوم، لقد رحلت عن دنيانا، لكنك تركت خلفك إرثًا من قيم ومواقف سيبقى شاهدًا على زمن كان فيه الرجال رجالًا، وإن كان المريخ رجلًا، فلن يكون إلا أنت، لأنك تجسدت فيه روحًا ووفاءً، وبقيت له وجهًا يليق بتاريخه وعظمته.



